أبو حامد الغزالي وابن تيمية في سياق الإحياء السني

أبو حامد الغزالي وابن تيمية في سياق الإحياء السني
رائد السمهوري /الوطن اون لاين
قلت سابقاً إن العالَم المسلم أحاطت به الباطنية، وقامت لهم دول في الجزيرة العربية ومصر والمغرب واليمن، وانتشرت قلاعهم في شرقي العراق، وفي الشام. كان القرنان الرابع والخامس الهجريّان قرنين شيعيين على العموم، وباطنيين على الخصوص. لكن دولة تركية ناشئة يحكمها السلاجقة الأتراك كانت تتبنى العقيدة السنية، على منهج الأشعرية في الأصول، والشافعية ثم الحنفية في الفروع، والتصوف في السلوك.
كان الباطنيون ينشرون "الدعاة" في كل مكان، وكان هؤلاء الدعاة على درجة من الذكاء والنباهة والعلم والتفلسف مع الاطلاع على بعض العلوم كالفلك والنجوم، والكيمياء، وعلوم الرياضيات، والطلسمات، أو ما يسمى (الأوفاق) و(الزيج)، ويقدمون خطابا فلسفيا لفهم الوجود، أشبه شيء بالفلسفة الأفلاطونية المحدثة، التي اشتهرت بالفلسفة المشائية، فهم يؤمنون بنفي الصفات نفيا قاطعا عن الله، ويؤمنون بالعقل الفعال، والعقول العشرة، والنفس الكلية، وأن العقل جوهر كلي، والنفس جوهر كلي كذلك؛ في مطابقة للفلاسفة المشائين حذو القذة بالقذة في كثير من المسائل. وكانت آلتهم المعرفية هي المنطق الصوري الذي كان ينأى عنه علماء الكلام الإسلامي من جميع الطوائف، منذ أوائل ظهور المعتزلة، وبقوا على موقفهم النقدي للمنطق الصوري طوال القرون.
كان للسلاجقة وزير حكيم، وسياسي محنك جدا، يلقب بنظام المُلك، واجه (الدعوة الباطنية) بدعوة مقابلة عن طريق بناء المدارس (وقد مات اغتيالا هو ثم ابنه من بعده، على يد بعض الإسماعيلية على عادتهم في الاغتيالات)، فبنى المدارس التي تنسب إليه فتسمّى المدارس النظامية، وكان أشهر تلك المدارس نظامية بغداد، ونظامية نيسابور، وقد درّس أبو حامد الغزالي (بعد شيخه أبي المعالي الجويني) في تلك المدارس.

وللوزير نظام الملك هذا كتاب مهم جدًا اسمه (سياسة نامة)، مترجم إلى العربية. ينضح هذا الكتاب بخطاب قاس تجاه (المذاهب الهدامة) و(التحذير منها)، ولا سيما (التشيع) و(الباطنية). 
وإذن، فقد كان الفكر السني الأشعري هو (أيديولوجيا) الدولة السلجوقية إن صح التعبير. وعلى هذا الأساس بدأ المشروع الذي أسميه (الإحياء السني). 
وفي هذه المرحلة، مرحلة تدريس الغزالي في تلك المدارس النظامية كتب كتابيه الجليلين؛ الأول: (مقاصد الفلاسفة) الذي شرح فيه مذهبهم شرحا وافيا ودقيقا، ثم تلاه بكتابه الشهير (تهافت الفلاسفة). وأتبعهما بكتابه الشهير (فضائح الباطنية) ثم (قواصم الباطنية).
في مقدمة كتابه (تهافت الفلاسفة) – وقد أسلفت أن آراءهم كالباطنية في جوانب كثيرة – استنهض أبو حامد الغزالي جميع مخالفيه من الطوائف الإسلامية ضد هؤلاء؛ فخلاف المسلمين فيما بينهم إنما هو في التفاصيل، أما خلاف الفلاسفة ففي أصول الدين، ولهذا هتف الغزالي صارخا: "فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب الأحقاد". 

ما يدلك على استشعار أبي حامد لهذه الشدائد التي على المسلمين فيها أن يتحدوا بمختلف طوائفهم وينسوا أحقادهم.
انتشرت كتب أبي حامد الغزالي السالفة الذكر، وذاعت في الناس، وكان لها دوي عظيم، وأثّرت تأثيرا كبيرا في الناس، وكانت من الكتب المؤسسة لمشروع "الإحياء السني" الذي ما كان ليكون لولا دولة السلاجقة، ووزيرها نظام المُلك، وأستاذها الأكبر حجة الإسلام الغزالي. 

ولهذا كانت لحظة الغزالي لحظة فارقة حقا في سيرورة الفكر الإسلامي، بل في التاريخ الإسلامي كله، وهذا – لعمرك – مجال حقيقي لدراسة مستفيضة، لو تفرغ لها باحث مجتهد. وإذن، كان الغزالي يعيش عصره وينفعل به، ويتفاعل معه. وإذن كان التصدي للفلسفة المشائية ولأختها الباطنية من الكتب المؤسسة لهذه اللحظة التاريخية.
غير أن أبا حامد الغزالي وقد تعمق في الفلسفة، وانشغل بالباطنية؛ انفتح تجاه المنطق الصوري، ورفع من شأنه كثيرا جدا حتى قال في كتابه المستصفى إن من لا يعرف المنطق لا ثقة له بعلومه أصلًا! وكان أبو حامد أول متكلم يعتمد المنطق الصوري ويرفع من شأنه، بعد أن كان موطن نقد عند المتكلمين، وهكذا نستطيع أن نقول: إن آلة الباطنية والفلاسفة المعرفية اخترقت المنهج المعرفي الإسلامي، وهذا بلا شك يعد انتصارا للباطنية، وقد قاد هذا إلى امتزاج مباحث علم الكلام الأشعري بمباحث الفلاسفة، حتى اختلطت مباحثهما اختلاطا واضحا عند فخر الدين الرازي من بعد، كاختلاط الماء بالخل.
أما أبو حامد الغزالي فأصابه اختلاط وتردد وحيرة وشكوك، حتى أصبح في حالة من السفسطة، ومرض حتى ما عاد يستطيع الكلام من شدة التفكير والشك، ومر بأزمة معرفية حقيقية حكى قصتها في كتابه المعروف (المنقذ من الضلال)، وهذا ما جعله يرتحل منفردا يتأمل، حتى هُدِي إلى الحل الذي وجده في التصوّف، ولكن تصوّف الغزالي كان متأثرا شيئا ما بما قرأه من الفكر الباطني، ولهذا انتقده ابن تيمية مرارا وأشار إلى هذا التأثر، فكتب كتبه في التصوف الشهيرة من مثل: (كيمياء السعادة) – ولعل استحضار الكيمياء هنا يلفت الانتباه إلى علم كان الباطنية يعتنون به جدًا-، و(مشكاة الأنوار)، و(المضنون به على غير أهله) وغيرها، وهناك كتب منسوبة للغزالي فيها كلام عن الحروف وأسرارها والأوفاق والزيج.
لم يكن أبو حامد في هذا الوقت يحمل ذلك الهم الرسالي الذي اضطلع به أول الأمر في مواجهة الباطنية، بل كان همّه – كما أفهم وأقرأ – النجاة الفردية.
وهكذا كانت لحظة أبي حامد الغزالي لحظة مؤثرة جدًا في الفكر السنّي، فلقد أدخل علم المنطق أداة للمعرفة في مناهج المتكلمين الاستدلالية بعد أن لم يكن معترَفًا به، وفتح الباب لبعض التأويل الباطني. وهو ما نقمه عليه ابن تيمية.
إذا فهمنا لحظة الغزالي وسياقها التاريخي تحت مظلة (الإحياء السني) الذي انطلق به سياسيًا السلاجقة، ثم الزنكيون، ثم الأيوبيون، ثم المماليك، نستطيع أن نفهم لحظة ابن تيمية، الذي أراد أن يعيد الأمور إلى نصابها، فكتب الرد على المناطقة، وهاجم النفي في الصفات، وقارن بين الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم بالباطنية، حذرًا من (القرمطة) في السمعيات كما كان يكرر دائمًا، وخوفًا من العودة إلى دولة الباطنية التي لم يكن قد مضى على سقوطها إلا مئة عام تقريبا بولادة ابن تيمية. فليتأمل أصحاب العقول.

شارك برأيك

مرحبا بالاصدقاء الاعزاء
يسعدنى زيارتكم وارجو التواصل دائما
Hello dear "friends
I am glad your visit and I hope always to communicate

TvQuran
,