شعبان عبد الرحمن *
--------------------
هذا رجل تشهد له مدرجات الجامعات حيث صال وجال في تربية الأجيال علي العلم وتشهد ساحات المعامل الدراسية لجهوده المضنية في ترقية العقول وصناعة العلماء من أجيال الغد ... ويشهد له الآلاف من طلاب كليات العلوم في مصر والكويت واليمن والولايات المتحدة الذين عايشهم ورعاهم رعاية علمية وأبوية بصورة منقطعة النظير . وقد كان يقوم بذلك كله - في صمت ودون ضجيج - باعتباره عملا من صميم الدعوة إلي الله وإسهاما في رسالة النهوض بالأمة من عثرتها .
ولم يكن الدكتور بد ر الدين غازي أستاذ الكيمياء الفيزيائية في مصر والكويت وجامعة بنسلفانيا الأمريكية لم يكن - يرحمه الله - مجرد أستاذ يؤدي وظيفته أو محاضر يلقي محاضرته ثم يعود إلي حياته الخاصة وإنما كانت أبحاث طلابه في الدراسات العليا تملأ عليه جل وقته وكانت أبحاثه في معامل كليات العلوم تعيش فيه حتي اختطفت منه أثمن أوقاته وأولها أيام العطل والأجازات .
كان يركز اهتمامه التام علي أمرين : حقيبته المكتظة بأبحاث أبنائه وجهاز حاسوبه الذي يقضي أمامه أوقاته دون اكتراث بملبس ولا مأكل ولامسكن فقد كان ذلك العملاق الحاصل علي اعلي الشهادات العلمية في الكيمياء والفائز بأعلي شهادات التقدير والعضو البارز في العديد من الجمعيات العلمية كان بسيطا بدرجة ملفتة ومتواضعا بدرجة تخجل من يتعامل معه ، وحتي اللحظات الأخيرة من حياته وهو علي سرير المرض لم يتوقف عن متابعة أبحاث أولاده الطلاب – كما كان يحب أن يسميهم - والعمل علي سرعة انجاز رسائلهم العلمية ويشهد علي ذلك زملاؤه الذين عايشوه بالمستشفي إذ يؤكد أحدهم أنه كان يلح عليه في الجلوس إلي جواره ويظل يملي عليه بعض الملاحظات علي أبحاث طلابه حتي يدخل في غيبوبة ممسكا بيده وإذا هم بالانصراف ضغط بيده علي يده مشددا عليه ألا ينصرف حتي ينهي ما لديه ...
هكذا رحل عنا منذ أيام هذا العالم المتواضع بعد أن أنجز الإشراف علي 35 رسالة ماجستير ودكتوراه في مصر والولايات المتحدة وبعد مسيرة علمية مشرقة في جامعات مصر والكويت وأمريكا وبعد جهود كبيرة في أربع جمعيات علمية مصرية وأمريكية ( الجمعية المصرية للتآكل – جمعية الكيمياء الكهربية الأمريكية – الجمعية الكيميائية الأمريكية – المؤسسة الأمريكية للمهندسين الكيميائيين ) .
كان رجلا ودودا خلوقا سريعا ما يألفه من يلقاه حتي الأطفال مع آبائهم سرعان ما كانوا يندمجون معه ، وقد أزالت تلك الصفات الطيبة حواجز كثيرة بينه وبين الناس .
تعرفت علي ذلك الرجل بين عدد من الأكاديميين وكانت حاستي الصحفية تدفعني للدخول معه في حوارات ومناقشات أحيانا ما تكون شائكة لكن بساطة الرجل كانت تحولها إلي مناقشات مفيدة ، وكلما تعمقت معه في النقاش كنت تجد مزيدا من الآذان الصاغية وعندما تختلف معه تجد نفسك أمام ساحة فسيحة من سعة الصدر وكانت تعلو وجهه الطيب ابتسامة هادئة وهو يقر لك ببعض ما عندك ولم ينته نقاش معه إلا والقلوب أكثر تقاربا ، فقد كان يزرع فيمن يحاوره مزيدا من الحب والاحترام .
وكما كان ذو خلق رفيع مع الخلق كان ذو خلق أرفع وأسمي مع الخالق فقد استقبل ابتلاء المرض المفاجئ برضا وتسليم بقضاء الله ولم أره – كغيري من مئات الزائرين - خلال زياراتي له إلا مبتسما لقضاء الله .
لقد كان الدكتور بدر الدين غازي مدرسة من طراز خاص في الحياة وهي مدرسة نافعة وسيتواصل نفعها عبر هؤلاء الأساتذة المنتشرين في جامعات العالم من طلابه وقبل ذلك كانت ثمارها الطيبة في بيته العامر بأبناء وبنات بررة يقتفون اثر والدهم في حب العلم ونيل اعلي الدرجات العلمية ومن وراء ذلك بعد توفيق الله زوجة مجاهدة صابرة محتسبة ، صمدت معه خلال مرضه بكل ما أوتيت من جلد وقوة فنسأل الله سبحانه وتعالي أن يجزيها خير الجزاء وان يرزقها المزيد من الصبر والثبات .
وبعد فقد عاش هذا العالم كغيره من العلماء بين طلابه ومعامله في صمت ورحل في صمت دون أن تعلم وسائل الإعلام عنه شيئا لسبب معروف وهو أننا في عصر الاضمحلال الذي اختلت فيه الموازين .. وكفي !
أسأل الله سبحانه أن يرزقه الفردوس الأعلي مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا .
------------------------
* مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية
--------------------
هذا رجل تشهد له مدرجات الجامعات حيث صال وجال في تربية الأجيال علي العلم وتشهد ساحات المعامل الدراسية لجهوده المضنية في ترقية العقول وصناعة العلماء من أجيال الغد ... ويشهد له الآلاف من طلاب كليات العلوم في مصر والكويت واليمن والولايات المتحدة الذين عايشهم ورعاهم رعاية علمية وأبوية بصورة منقطعة النظير . وقد كان يقوم بذلك كله - في صمت ودون ضجيج - باعتباره عملا من صميم الدعوة إلي الله وإسهاما في رسالة النهوض بالأمة من عثرتها .
ولم يكن الدكتور بد ر الدين غازي أستاذ الكيمياء الفيزيائية في مصر والكويت وجامعة بنسلفانيا الأمريكية لم يكن - يرحمه الله - مجرد أستاذ يؤدي وظيفته أو محاضر يلقي محاضرته ثم يعود إلي حياته الخاصة وإنما كانت أبحاث طلابه في الدراسات العليا تملأ عليه جل وقته وكانت أبحاثه في معامل كليات العلوم تعيش فيه حتي اختطفت منه أثمن أوقاته وأولها أيام العطل والأجازات .
كان يركز اهتمامه التام علي أمرين : حقيبته المكتظة بأبحاث أبنائه وجهاز حاسوبه الذي يقضي أمامه أوقاته دون اكتراث بملبس ولا مأكل ولامسكن فقد كان ذلك العملاق الحاصل علي اعلي الشهادات العلمية في الكيمياء والفائز بأعلي شهادات التقدير والعضو البارز في العديد من الجمعيات العلمية كان بسيطا بدرجة ملفتة ومتواضعا بدرجة تخجل من يتعامل معه ، وحتي اللحظات الأخيرة من حياته وهو علي سرير المرض لم يتوقف عن متابعة أبحاث أولاده الطلاب – كما كان يحب أن يسميهم - والعمل علي سرعة انجاز رسائلهم العلمية ويشهد علي ذلك زملاؤه الذين عايشوه بالمستشفي إذ يؤكد أحدهم أنه كان يلح عليه في الجلوس إلي جواره ويظل يملي عليه بعض الملاحظات علي أبحاث طلابه حتي يدخل في غيبوبة ممسكا بيده وإذا هم بالانصراف ضغط بيده علي يده مشددا عليه ألا ينصرف حتي ينهي ما لديه ...
هكذا رحل عنا منذ أيام هذا العالم المتواضع بعد أن أنجز الإشراف علي 35 رسالة ماجستير ودكتوراه في مصر والولايات المتحدة وبعد مسيرة علمية مشرقة في جامعات مصر والكويت وأمريكا وبعد جهود كبيرة في أربع جمعيات علمية مصرية وأمريكية ( الجمعية المصرية للتآكل – جمعية الكيمياء الكهربية الأمريكية – الجمعية الكيميائية الأمريكية – المؤسسة الأمريكية للمهندسين الكيميائيين ) .
كان رجلا ودودا خلوقا سريعا ما يألفه من يلقاه حتي الأطفال مع آبائهم سرعان ما كانوا يندمجون معه ، وقد أزالت تلك الصفات الطيبة حواجز كثيرة بينه وبين الناس .
تعرفت علي ذلك الرجل بين عدد من الأكاديميين وكانت حاستي الصحفية تدفعني للدخول معه في حوارات ومناقشات أحيانا ما تكون شائكة لكن بساطة الرجل كانت تحولها إلي مناقشات مفيدة ، وكلما تعمقت معه في النقاش كنت تجد مزيدا من الآذان الصاغية وعندما تختلف معه تجد نفسك أمام ساحة فسيحة من سعة الصدر وكانت تعلو وجهه الطيب ابتسامة هادئة وهو يقر لك ببعض ما عندك ولم ينته نقاش معه إلا والقلوب أكثر تقاربا ، فقد كان يزرع فيمن يحاوره مزيدا من الحب والاحترام .
وكما كان ذو خلق رفيع مع الخلق كان ذو خلق أرفع وأسمي مع الخالق فقد استقبل ابتلاء المرض المفاجئ برضا وتسليم بقضاء الله ولم أره – كغيري من مئات الزائرين - خلال زياراتي له إلا مبتسما لقضاء الله .
لقد كان الدكتور بدر الدين غازي مدرسة من طراز خاص في الحياة وهي مدرسة نافعة وسيتواصل نفعها عبر هؤلاء الأساتذة المنتشرين في جامعات العالم من طلابه وقبل ذلك كانت ثمارها الطيبة في بيته العامر بأبناء وبنات بررة يقتفون اثر والدهم في حب العلم ونيل اعلي الدرجات العلمية ومن وراء ذلك بعد توفيق الله زوجة مجاهدة صابرة محتسبة ، صمدت معه خلال مرضه بكل ما أوتيت من جلد وقوة فنسأل الله سبحانه وتعالي أن يجزيها خير الجزاء وان يرزقها المزيد من الصبر والثبات .
وبعد فقد عاش هذا العالم كغيره من العلماء بين طلابه ومعامله في صمت ورحل في صمت دون أن تعلم وسائل الإعلام عنه شيئا لسبب معروف وهو أننا في عصر الاضمحلال الذي اختلت فيه الموازين .. وكفي !
أسأل الله سبحانه أن يرزقه الفردوس الأعلي مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا .
------------------------
* مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية