الدكتور جيفري لانج Jeffrey Lang
استاذا الرياضيات في جامعة كنساس الامريكية
' في اليوم الذي اعتنقت فيه الإسلام ، قدّم إليّ إمامُ المسجد كتيباً يشرح كيفية أداء الصلاة .
غير أنّي فوجئتُ بما رأيتـُه من قلق الطلاب المسلمين ، فقد ألحّوا عليَّ بعباراتٍ مثل:
خذ راحتك
لا تضغط على نفسك كثيراً
من الأفضل أن تأخذ وقتك
ببطء .. شيئاً ، فشيئاً ...
وتساءلتُ في نفسي ، هل الصلاة صعبةٌ إلى هذا الحد ؟
لكنني تجاهلت نصائح الطلاب ، فقررت أن أبدأ فوراً بأداء الصلوات الخمس في أوقاتها .
وفي تلك الليلة ،
أمضيت وقتاً طويلاً جالساً على الأريكة في غرفتي الصغيرة بإضاءتها الخافتة ،
حيث كنت أدرس حركات الصلاة وأكررها ،
وكذلك الآيات القرآنية التي سأتلوها ، والأدعية الواجب قراءتها في الصلاة .
وبما أن معظم ما كنت سأتلوه كان باللغة العربية ،
فقد لزمني حفظ النصوص بلفظها العربي ، وبمعانيها باللغة الانكليزية .
وتفحصتُ الكتيّب ساعاتٍ عدة ،
قبل أن أجد في نفسي الثقة الكافية لتجربة الصلاة الأولى .
وكان الوقت قد قارب منتصف الليل ،
لذلك قررت أن أصلّي صلاة العشاء ....
دخلت الحمام ووضعت الكتيب على طرف المغسلة مفتوحاً على الصفحة التي تشرح الوضوء .
وتتبعت التعليمات الواردة فيه خطوة خطوة ، بتأنٍّ ودقة ،
مثل طاهٍ يجرب وصفةً لأول مرة في المطبخ . وعندما انتهيت من الوضوء ،
أغلقت الصنبور وعدت إلى الغرفة والماء يقطر من أطرافي .
إذ تقول تعليمات الكتيب بأنه من المستحب ألا يجفف المتوضئ نفسه بعد الوضوء ..
ووقفت في منتصف الغرفة ، متوجهاً إلى ما كنت أحسبه اتجاه القبلة .
نظرت إلى الخلف لأتأكد من أنني أغلقت باب شقتي ،
ثم توجهت إلى الأمام ، واعتدلت في وقفتي، وأخذتُ نفساً عميقاً ،
ثم رفعت يديّ ، براحتين مفتوحتين ،
ملامساً شحمتي الأذنين بإبهاميّ ... ثم بعد ذلك ،
قلت بصوت خافت الله أكبر .
كنت آمل ألا يسمعني أحد .
فقد كنت أشعر بشيء من الانفعال .
إذ لم أستطع التخلص من قلقي من كون أحد يتجسس علي ..
وفجأة أدركت أنني تركت الستائر مفتوحة ..
وتساءلت : ماذا لو رآني أحد الجيران ؟
تركتُ ما كنتُ فيه ، وتوجهتُ إلى النافذة .
ثم جلت بنظري في الخارج لأتأكد من عدم وجود أحد .
وعندما رأيت الباحة الخلفية خالية ، أحسست بالارتياح .
فأغلقت الستائر ، وعدت إلى منتصف الغرفة .....
ومرة أخرى ، توجهت إلى القبلة ، واعتدلت في وقفتي ،
ورفعت يدي إلى أن لامس الإبهامان شحمتي أذنيّ ،
ثم همست
الله أكبر ...
وبصوت خافت لا يكاد يُسمع ، قرأت فاتحة الكتاب ببطء وتلعثم ،
ثم أتبعتـُها بسورة قصيرة باللغة العربية ،
وإن كنت أظن أن أي عربي لم يكن ليفهم شيئاً لو سمع تلاوتي تلك الليلة ! .
ثم بعد ذلك تلفظتُ بالتكبير مرة أخرى بصوت خافت ،
وانحنيت راكعاً حتى صار ظهري متعامداً مع ساقي ،
واضعاً كفي على ركبتي .
وشعرت بالإحراج ، إذ لم أنحن لأحد في حياتي .
ولذلك فقد سررت لأنني وحدي في الغرفة ...
..وبينما كنت لا أزال راكعاً ،
كررت عبارة سبحان ربي العظيم عدة مرات.
ثم اعتدلت واقفاً وأنا أقرأ سمع الله لمن حمده ،
ثم ربنا ولك الحمد أحسست بقلبي يخفق بشدة ،
وتزايد انفعالي عندما كبّرتُ مرةً أخرى بخضوع ،
فقد حان وقت السجود .
وتجمدت في مكاني ،
بينما كنت أحدق في البقعة التي أمامي ،
حيث ..كان علي أن أهوي إليها على أطرافي الأربعة وأضع وجهي على الأرض
لم أستطع أن أفعل ذلك !
لم أستطع أن أنزل بنفسي إلى الأرض ،
لم أستطع أن أذل نفسي بوضع أنفي على الأرض ،
شأنَ العبد الذي يتذلل أمام سيده ..
لقد خيل لي أن ..ساقي مقيدتان لا تقدران على الانثناء .
لقد أحسست بكثير من العار والخزي وتخيلت ضحكات أصدقائي ومعارفي وقهقهاتهم ،
وهم يراقبونني وأنا أجعل من نفسي مغفلاً أمامهم .
وتخيلتُ كم سأكون مثيراً للشفقة والسخرية بينهم .
وكدت أسمعهم يقولون :
مسكين جف ، فقد أصابه العرب بمسّ في سان فرانسيسكو ، أليس كذلك؟
وأخذت أدعو:
أرجوك ، أرجوك أعنّي على هذا ....
أخذت نفساً عميقاً ، وأرغمت نفسي على النزول .
الآن صرت على أربعتي ، ثم ترددت لحظات قليلة ،
وبعد ذلك ضغطت وجهي على السجادة ..
أفرغت ذهني من كل الأفكار ،
وتلفظت ثلاث مرات بعبارة سبحان ربي الأعلى ...
الله أكبر . قلتها ،
ورفعت من السجود جالساً على عقبي .
وأبقيت ذهني فارغاً ، رافضاً السماح لأي شيء أن يصرف انتباهي ...
الله أكبر .
ووضعت وجهي على الأرض مرة أخرى ...
وبينما كان أنفي يلامس الأرض ،
رحت أكرر عبارة سبحان ربي الأعلى بصورة آلية
.. فقد كنت مصمماً على إنهاء هذا الأمر مهما كلفني ذلك .
الله أكبر .
و انتصبت واقفاً ، فيما قلت لنفسي :
لا تزال هناك ثلاث جولات أمامي وصارعت عواطفي وكبريائي في ما تبقى لي من الصلاة .
لكن الأمر صار أهون في كل شوط .
حتى أنني كنت في سكينة شبه كاملة في آخر سجدة .
ثم قرأت التشهد في الجلوس الأخير ، وأخيراً سلـَّمتُ عن يميني وشمالي ...
وبينما بلغ بي الإعياء مبلغه ، بقيت جالساً على الأرض ،
وأخذت أراجع المعركة التي مررت بها ..
لقد أحسست بالإحراج لأنني عاركت نفسي كل ذلك العراك في سبيل أداء الصلاة إلى آخرها .
ودعوت برأس منخفض خجلاً:
اغفر لي تكبري وغبائي ، فقد أتيت من مكان بعيد ،
ولا يزال أمامي سبيل طويل لأقطعه
وفي تلك اللحظة ، شعرت بشيء لم أجربه من قبل ،
ولذلك يصعب علي وصفه بالكلمات ...
فقد اجتاحتني موجة لا أستطيع أن أصفها إلا بأنها كالبرودة ،
وبدا لي أنها تشع من نقطة ما في صدري ...
وكانت موجة عارمة فوجئت بها في البداية ،
حتى أنني أذكر أنني كنت أرتعش .
غير أنها كانت أكثر من مجرد شعور جسدي ،
فقد أثـّرت في عواطفي بطريقة غريبة أيضاً .
لقد بدا كأن الرحمة قد تجسدت في صورة محسوسة وأخذت تغلفني وتتغلغل فيّ .
ثم بدأت بالبكاء من غير أن أعرف السبب .
فقد أخَذَت الدموع تنهمر على وجهي ،
ووجدت نفسي أنتحب بشدة .
وكلما ازداد بكائي ،
ازداد إحساسي بأن قوة خارقة من اللطف والرحمة تحتضنني .
ولم أكن أبكي بدافع من الشعور بالذنب ،
رغم أنه يجدر بي ذلك ،
ولا بدافع من الخزي أو السرور .
لقد بدا كأن سداً قد انفتح مطِلقاً عنانَ مخزونٍ عظيمٍ من الخوف والغضب بداخلي ..
وبينما أنا أكتب هذه السطور ،
لا يسعني إلا أن أتساءل عما لو كانت مغفرة الله عز وجل لا تتضمن مجرد ..
العفو عن الذنوب ، بل وكذلك الشفاء والسكينة أيضاً
ظللت لبعض الوقت جالساً على ركبتي ،
منحنياً إلى الأرض ، منتحباً ورأسي بين كفي ..
وعندما توقفت عن البكاء أخيراً ، كنت قد بلغت الغاية في الإرهاق .
فقد كانت تلك التجربة جارفة وغير مألوفة
إلى حد لم يسمح لي حينئذ أن أبحث عن تفسيرات عقلانية لها .
وقد رأيت حينها أن هذه التجربة أغرب من أن أستطيع إخبار أحد بها
.. أما أهم ما أدركته في ذلك الوقت :
فهو أنني في حاجة ماسة إلى الله ،
وإلى الصلاة
وقبل أن أقوم من مكاني ،
دعوت بهذا الدعاء الأخير:
اللهم ، إذا تجرأتُ على الكفر بك مرة أخرى ،
فاقتلني قبل ذلك –
خلصني من هذه الحياة .
من الصعب جداً أن أحيا بكل ما عندي من النواقص والعيوب ،
لكنني لا أستطيع أن أعيش يوماً واحداً آخر وأنا أنكر وجودك