في الدعوة للصلاة في المسجد الأقصى مغالطة سياسية وشرعية


* بقلم / عدنان زغلول
إذا كانت الرحالُ لا تُشَدُّ إلاّ إلى ثلاثةِ مساجدَ ثالثُها المسجدُ الأقصى، وإذا كانت أمنيَّةُ كلِّ مسلمٍ أن يرزقَه اللهُ فيه صلاةً قبلَ الممات، وإذا كان اللهُ قد فتح لعباده ما كان موصَداً من أمر تلك الصلاة، فهل على المُسلم بعد ذلك إلا أن يُلبِّيَ النداء بعدَ استجابة الدعاء؟.
عند النظر في هذه المسألة يتراءى لنا مشهدان في آن:
في المشهد الأول، المسلمون في جميع أقطارهم مدعوّون إلى زيارة القدس والصلاة في المسجد، وما على المسلم إلا أن يشدَّ رِحالَه إلى أبواب إحدى “السفارات” قبل أن يشدَّها إلى مَقصِده سواء كانت تلك السفارة في البلد الذي يُقيم فيه، إذا كان ذلك البلد “مُطبِّعاً”، أو في بلد آخرَ إذا كان بلدُ ذلك المسلم لم “يُطبَع″ بعد. وبإمكان المسلم أن يذهبَ إليها بشخصه أو بوكيل عنه من إحدى الجهات التي تتولى هذه المهمةَ للحصول على الإذن بالدخول إلى “الأراضي الإسرائيلية” التي “يقع فيها المسجدُ الأقصى”. المهمةُ إذن، في هذا المشهد، باتت ميسَّرة. وتتكفل “الدولةُ المُضَيِّفةُ”، وهي الراعيةُ لحقوق أتباع جميع الديانات بممارسة شعائرهم الدينية، بضمان حُسنِ تنفيذِ برنامجِ الزيارةِ على أكملِ وجهٍ لتحقيقِ “الغايةِ المقصودة”!.
وفي المشهد الثاني، نرى جموعَ الزائرين والمُصَلّين من شتّى البلدات والقــُرى في فلسطين يتوافدون عبرَ سلسلةٍ من حواجزِ المنع، ونقاط التفتيش، وضبابِ الغازات المُسيِّلة، وزخاتِ المياه العادمة، قاصدين بيتَ المقدس، لكنّهم لن يصلوا إليه بالرَغم ممّا يدفعون من حجارةٍ مرشوقةٍ، وجراحٍ نازفةٍ، واشتباكاتٍ داميةٍ، مع جنودِ جيشٍ أو قواتِ أمنٍ أو قطعانِ مستوطنين.
هذان المشهدان معاً يُفصحان عمّا أُبهِمَ من أمرٍ و خفيَ من سرٍّ على بعض من أخطأوا الفهمَ عن جهلٍ أو جانـَبوه عن قصدٍ وغايةٍ في مسألة الترويج لمشروع “زيارة المسجد الأقصى”.
لكن قبل التفصيل في القول في بيان ما أشكل من جَلِيِّ هذا الأمر ينبغي تنبيهُ الغافلين عن مَقاصدِ الشريعةِ والدّين إلى ما غفلوا عنه من أمر النـَدْبِ والدعوة إلى هذه الصلاة.
فالأحكامُ الشرعيةُ في الدين لا يستقيم فَهمُها إلا بإسقاطها في منازلها الصحيحةِ على أرض الواقع بما يُحققُ المقاصدَ الشرعيَة. وفقهُ الواقع في السياسة الشرعيَة هو فِقهُ المَقاصد والمُوازَنات وهو فقهُ الظرفِ الذي لا تصحُّ الفتاوى إلاَ وفقَ قواعده. والسياسةُ الشرعية تضبط التوازنَ بين ثوابت الأحكام وواقع العصر بما يدرأُ المفسدةَ المُترتبة ويُحققُ المصلحةَ المشروعةَ وفق مقاصد الدين لا بما تـنطِقُ به النصوصُ الجامدةُ خارجَ ظرفي المكان والزمان. وفي مسألة الصلاة هذه وغيرِها من المسائل المعاصِرة علينا ألاّ نأخذَ النصوصَ في هيكلها المُطلق بل في سياقها الواقعيِّ الذي نعيشُ والذي يُضفي عليها الدلالةَ الصحيحةَ ويُحققُ الغايةَ الشرعيةَ المقصودة.
وإذا كان المسجدُ الأقصى وما حولَه من الأرض قد بات في أيدي الغزاة الغاصبين، بعد أن تخلَى عنه أصحابُه، فتمادى المحتلُّ في إنكار حقهم فيه، فبسطَ عليه سلطانَه، وادَّعى لنفسه تاريخَه، ويطمعُ أن يُخرِجَ من بقي فيه من أهله، فأين يقع الواجبُ في هذا الحال، وكيف تُقدَّر أولويّاتُ الأفعال، وإلى أي غايةٍ تــُشَدُّ الرحال؟.
أمّا على أرض الواقع، فإن الإجراءاتِ العمليةَ التي تتطلَبُها الزيارةُ تقود بالضرورة إلى حالة التطبيع المستهدَفةِ أبتداءاً من هذا المشروع. والتطبيعُ في اللغة البسيطة هو أن يكون الحالُ مع العدو طبيعيا وغيَر مُنكَرٍ سواء كان ذلك بصريح الاعتراف أو بالقبول والإقرار أو بما يترتب على الأفعال. وعلى ذلك فإن الاعترافَ يَثـْـبُتُ بالقيام بأي عمل يترتب على ممارسته الإقرارُ بحق المُغتصِب في الوجود على الأرض وفرضِ سيادته عليها، وهو ما يَثبُت حُكماً بطلب الإذن منه بالزيارة والصلاة اعترافاً له بالسيادة والوصاية، وهو اعترافٌ بباطلٍ تترتب عليه مفسدةٌ وضياع حقوق، وفيه إذعانٌ يترتب عليه انتقاصُ رُكنٍ من أركان العبادة المشروعة ألا وهو العِزّةُ المستمَدةُ من قوله تعالى: “وللهِ العزةُ ولرسولهِ وللمؤمنين”.
فأيُّ مشروعيةٍ لصلاةٍ مشروطةٍ بإقرار باطل؟، وأيُّ مشروعيةٍ لعبادةٍ تترتب عليها مفسدة؟، وأيُّ عِزّةٍ لمسلمٍ يطرُق “أبوابَ السفاراتِ” يستجدي الإذن بالزيارة والصلاة؟.
لكنَّ قضيةَ القدس أيها المسلمون، كما سائر الأرض الفلسطينية، أكبرُ من مسألة أداء صلاةٍ وممارسةِ شعائر، كما هي أكبرُ من إعمار مسجدٍ وترميمِ جدران. إنها قضيةُ وطنٍ جرى التفريطُ فيه وقضيةُ حقٍ نُدعى إلى التنازل عنه. ثم هي قضيةُ كرامةٍ رضيَتِ الأمةُ بانتقاصها، حتى أصبحت قضيةَ وجودٍ يتهددُها كلَّها، فهل يشفعُ ذلك كلّـَه صلاةٌ تُؤدّى أو حجرٌ يُرمّـَم؟.
لكن من العجب أن يُبرِّرَ هذه الصلاةَ بعضُ من توهموا الأمرَ بقياسين فاسدين:
الأول قياسُ الصلاة تحت الوصاية الإسرائيلية بعمرة القضاء التي أدّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين في السنة السابعة من الهجرة بعد عام الحُديبية وقبلَ الفتح، وكانت مكةُ آنذاك في أيدي المشركين. في هذا القياس يتجلَى الإسقاطُ الخاطىءُ للأحوال والأحكام في غير مواقعها الصحيحة ما يُفسدُ القياسَ ويُبطلُ الفتوى المَبْنِيَّةَ عليه. فالمشركون من قريشٍ وغيرُهم في مكةَ كانوا أصحابَ أرضٍ وأهلَ ديارٍ شأنُهم في ذلك شأنُ الملسمين أنفسِهم، وكان المسلمون والمشركون في الوطن والمواطنة سواءً. ما كان المشركون في مكةَ غرباءَ مستوطنين ولا غُزاةً مغتصبين، ولم تكن قضية الصراع آنذاك تتمثـل في الأرض، ولا في تحرير مكةَ من “الاحتلال”. فكفّـارُ مكةَ كانوا فيها مواطنين، شركاء في الوطن وفي السيادة على الأرض. فما لكم كيف تحكمون، وعلى أي قياس يا أصحاب الفتوى تــُـفـتون؟
والقياس الفاسدُ الثاني بما ذهب إليه البعضُ من حال المسلمين وصلاتِهم في مساجد دول الغرب وغيرِها من البلدان غيرِ المسلمة حيث لا سيادةَ للمسلم على الأرض التي يمارس عبادته عليها!. والجوابُ أنّ تلك المساجدَ إنما بُنيت ابتداءاً على أرض غير المسلمين وفي ظل قوانين تلك الدول وسيادة أصحابها عليها، وهو ما لا ننكره عليهم. والمسلمون في تلك الدول هم الداخلون عليها والطارئون فيها بما لا يُسَوِّغُ لهم ادعاءَ الوصاية والسيادة على شيء منها إلا وفق قوانينها وأنظمتها، وهوما يُعرَف في الفقه بأحكام المسلم في غير دار الإسلام.
فعلى الذين أخطأوا في القياس أن يتـنبّهوا إلى طبيعة الصراع ومسألة الحقوق في القضية التي نحن بصددها قبل إسقاط الأحكام الفقهية والتاريخية في غير مواقعها.
أما أولئك الذين يُهروِلون، قاصِدين عاِلمين، من الأئمة والمُفتين وعلماء السلاطين، ومن المسؤولين الرسميّين وغير الرسميّين، فقد كان الأحرى بهم عند “تلبية النداء” لـ”صلاةٍ فيه قبل المَمات” أن يَتذكَّروا ويُـذَكِّروا وهُمْ في رحابه يقفون وبين يدَي الله يدْعون، أنّ المسجدَ الأقصى رهين في قبضة الغاصبين، وأنّ هناك في الدِين فرضاً بقتال المعتدين، وطرد الغزاة المستوطنين وتحرير كامل أرض فلسطين، وأن الدعوةَ لذلك من ثوابت الدين، والتغافل عنها من صفات المنافقين.
أما في التفصيل والبيان في المقاصد السياسية من هذا المشروع فينبغي التذكيرُ بالأهداف الإسرائيلية الكامنةِ وراءَ هذه الدعوة. وحسبنا أن نتساءل من أين أتى هذا “التسامح” الإسرائيليُّ بالسماح لنا كمسلمين من أصقاع الأرض القاصية والدانية بزيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، وهُم -الإسرائيليون- الذين ما انفكّوا يذكروننا والعالمَ من حولنا في كل مناسبة وبأعلى صوتٍ بـ “حقائقهم التاريخية” بأنّ “جبل الهيكل”، وهو حرمنا القدسيُّ، هو قلبُ “أورشليم” عاصمة “إسرائيل” إلى الأبد.
هذه الزيارة، ومِفتاحُها الإذنُ الإسرائيلي، تعني أولاً تكريسَ أمرٍ واقعٍ هو أنّ القدس أرضٌ إسرائيلية، وأنّ الوصولَ إليها إنما يكون بإذن أصحابها، فالسيادة عليها إسرائيلية، والأمن إسرائيلي. ولْيعلمِ الذين يَشدّون إليها رِحالَهم أنه، ومن قبيل هذه الثوابت فقط، ومن قبيل أنّ “الدولة المضيفةَ” هي “دولةُ قانونٍ” و “راعيةُ حقوقٍ”، وأنّه التزاماً منها بذلك جاء الإذنُ بهذه الزيارة.
وهي تعني ثانيا، رسالةً ألى العالَم بأنْ لا مشكلةَ لأحدٍ مع “إسرائيل” طالما أن “الدولةَ” تسمح لأتباع الديانات الأخرى، ومنهم المسلمون، بزيارة أماكن عبادتهم التي قد توجد على “أراضيها” لأداء شعائرهم، وأنها تكفلُ لهم حقوقَهم الدينيةَ وتمنحُهم الأذونَ الرسمية، وتوفِّرُ لهم الحمايةَ الأمنيّةَ وفقاً للأعراف والقوانين الدولية.
ثمَّ إنها، أي الزيارة، تعني ثالثا ًوليس آخراً، معالجةً ذكيةً من شأنها إزالةُ الاحتقانِ ورفعُ الحرج وتطييبُ الخاطرِ لأهل الإيمان والإسلام مِمَّن تاقت نفوسهم وهَفَتْ قلوبُهم زمناً لـ “تقديس حَجِّهم” وزيارةِ “أقصاهم” وأداءِ صلاةٍ فيه قبل مَماتِهم. فهاهُم اليومَ في رِحابِه يُصَلّون، ولربِّهم على إجابة دعائهم يشكرون. فلا بأسَ في الحالِ عليهم، ولا حرجَ فيما هو واقعٌ في أرضهم وعلى مقدساتهم طالما أنهم ظفروا بـ”مُرادِهم”، لينتهي الأمرُ من النِقمة والاحتقان إلى القـَـبول والاطمئنان بِنَوالِهم ما يظنّون أنه المَقصِدُ والغاية.
لقد شهدت القضية الفلسطينية، منذ كانت نكبتها، مسلسلاً من المغالطات والالتفافات أسفر عنه رُكامٌ من التنازلات بَدءاً من الاعتراف الذي كان من المحرَّمات، ثم بالقَبول بأجزاءٍ من الوطن متفرقات، ثم بالتخلَي عن حقنا في العودة بحكم الواقع و تقادم الزمان، وبالسكوت عن الاستيطان فيما بقي لنا من فتات الأوطان.. وبالصمت عن بناء الجدران، والاستعداد للإقرار بيهودية الكيان، حتى انتهى المسلسلُ إلى حالةٍ من الاستمتاع بالتفاوض على ما ليس بالإمكان. كلُّ ذلك في إطار مسلسلٍ من مشروع متواصلٍ اسمه “عملية السلام” ليس آخرَ حلقاته هذه المغالطة التي طلع علينا بها “أهل الفتوى” في هذه الأيام.
و”عملية السلام” هذه وأخواتُها من المسمَّيات والمضامين الإسرائيلية ذاتِ المفردات العربيَة والتي تـندرج في منظومة من المصطلحات الثقافية المطلوبِ تسويقـُها في الوعي العربي والتي منها ما هو مندوب ومرغوب، ومنها ما هو محرَّمٌ ومنبوذ، نضرب منها مثلاً “ثقافة الحوار” و “تعايش الجِوار”، ” قبول الآخَر”، “نبذ العنف”، “التحريض على الكراهية”، وليس آخرَها “الترويج للإرهاب”، وغير ذلك من المُباحات أو المُحَرَّمات ممّا يبتدعُه مُنـَظِّرو شرعية الاغتصاب من مصطلحات الطمس والتزوير والمغالطة تماماً كهذه الدعوة المشبوهة التي يتردَّدُ صداها في إعلامنا اليوم. هذه المغالطات جميعها تعمل أدواتٍ لغاية واحدةٍ هي تصفيةُ ما بقي لهذه الأمة من حقٍّ وكرامة.
لكنَّ ثمَةَ قضيةً بقيتْ حيَةً في قلوب أصحابها لا زالت عصيةً على المؤامرات، ومُحرِجةً عند التنازلات.. ألا وهي القدسُ والمقدسات، حتى تفتَّق الذكاءُ عن طرح مشروع “صلاةٍ قبلَ الممات”، فلَقِيَ هوىً في صدور”أهل الإيمان” وغايةً في نفوس تجّار الأوطان.
ولئن كانت الشعوبُ العربيةُ والأمة الإسلاميةُ ترفض الاعترافَ بـ “دولة الكيان” على مَرِّ الزمان وفاءً و محبةً للأوطان، فإنَّ في قَبولها لهذه الدعوة عينَ الاعتراف والإقرار بما تمنَّعَتْ عنه تلك العقودَ الطِوال.

كاتب ومهندس اردني

شارك برأيك

مرحبا بالاصدقاء الاعزاء
يسعدنى زيارتكم وارجو التواصل دائما
Hello dear "friends
I am glad your visit and I hope always to communicate

TvQuran
,