الصراع بين المذاهب أشد من الصراع بين الأديان..!

يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل
الرياضيرى الفيلسوف، وعالم الاجتماع الفرنسي: غوستاف لوبون،( 1841 1931م)، أن تاريخ الصراعات المذهبية يثبت أن العداء بين أنصار المعتقدات المتقاربة، وهي المذاهب العقدية المنتمية إلى دين واحد، يكون أشد مما هو عليه بين أنصار الأديان المختلفة.
ويضرب (لوبون) مثلاً لهذه الحقيقة، من الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت في بلده فرنسا، وفي بقية الدول الأوروبية إبان الحروب الدينية التي جرت في العصور الوسطى، وفي عصر
الجذر السياسي للصراع الشيعي/السني ليس بدعاً من الصراع المذهبي التاريخي، إذ جل، إن لم يكن كل الصراعات المذهبية في الأديان الأخرى، إذا تُؤُمِلتْ وجد أنها لم تكن إلا ظاهراً عقدياً لباطن سياسي بحت، وإن خفي ذلك على جماهير ذلك المذهب أو ذاك، وخاصة بعد أن بعدت الشقة التاريخية عن بداية ذلك الصراع
النهضة، بل وقبيل عصر التنوير. فلقد بلغت همجية وشدة الصراعات بين تلك الطائفتين، ما لم تبلغ الحروب التي خاض غمارها المسيحيون أنفسهم ضد أي من أهل الديانات الأخرى. ثم يعجب(لوبون) كيف يكون للطائفتين كتاب واحد، ويتوجهون إلى رب واحد، ومع ذلك، فلقد أرويا التراب والحجر والشجر بالدم القاني الذي سفكاه على وقع صراعهما المذهبي!
ويبدو أن ثمة قانوناً نفسياً يثوي خلف ارتفاع حدة الصراع بين الطوائف والمذاهب من داخل الملة الواحدة، مقارنة مع مستوى الصراع بين أهل الديانات. ذلك أن الصراع بين المذاهب يتخذ شكل تنافس بينها من ناحية أيهما يمثل الدين الحق. ونحن إذا تذكرنا معيار"الفرقة الناجية الوحيدة"، الذي يتحكم عادة في العلاقة بين المذاهب من داخل الديانة الواحدة، أدركنا أن حدة الصراع بينها لا بد وأن تكون على أشدها، من ناحية إصرار كل مذهب على أنه وحده "الفرقة الناجية"، وأن ما سواه من المذاهب الأخرى، فلقد ضلت سواء السبيل، وهي من ثم تعمل لهدم الدين، والإتيان عليه من القواعد، كونها صنيعة الأعداء الذي يكيدون للدين وأهله، بامتطاء أظهر أهل تلك المذاهب الضالة!
الذاكرة الفرنسية، التي ينطلق منها (لوبون)، لتأكيد تلك الحقيقة، لا تزال تشعر بالعار إزاء ملاحم الصراع المذهبي المرير بين البروتستانت والكاثوليك، وهما الطائفتان اللتان تشكلان المقابل المذهبي للثنائي المذهبي الإسلامي: الشيعة والسنة!
يقول(لوبون) في كتابه(الثورة الفرنسية وروح الثورات) "ولقد نشأ عن الصراع المذهبي، حروب دينية ضرجت فرنسا بالدم زمناً طويلاً. فمدنها دمرت، والدماء سفكت، ولسرعان ما اتصف هذا النزاع بالوحشية الخاصة بالوقائع الدينية والسياسية". ويضيف: "لقد أبيد الشيوخ والأطفال والنساء، وصار رئيس برلمان إكس (البارون دوبيدو) مثالاً يحتذى به لقتله في عشرة أيام ثلاثة آلاف شخص، وتدميره ثلاث مدن رئيسية، واثنتين وعشرين قرية. وكان (مونلوك) يطرح أتباع كالفن في الآبار حتى تمتلئ".
كما تحدث لوبون أيضاً عن (مذبحة سان بارتلمي)، والتي تولى كبرها الكاثوليك ضد إخوتهم في الدين من البروتستانت. فبعد أن دقت أجراس الوعظ المذهبي التحريضي ضد البروتستانت، بأنهم أعداء الله وأعداء يسوع والحواريين، (قارن: أعداء الله ورسوله والصحابة، أو: أعداء الله ورسوله أهل البيت، وهي التهمتان المتبادلتان بين الشيعة والسنة حالياً)، انقض أشراف الكاثوليك ذات مساء مكفهر، ومعهم الحرس الملكي والجمهور على من سموهم (الخوارج)، فقتلوا منهم في باريس وحدها ألفي نفس خلال ليلة واحدة. ثم حذا سكان الولايات الأخرى حذو أهل باريس، فسفكوا دماء ثمانية آلاف نفس من البروتستانت!
والغريب أن هذه الحادثة (سانت بارتلمي)، لم تُثِرْ، كما يقول لوبون، حين وقوعها شيئاً من الانتقاد رغم فظاعتها، بل على العكس، فلقد "تتالت أنواع التهنئة على ملك فرنسا، أكثر مما ستنهال عليه لو حقق نصراً عزيزاً في ساحة الحرب. ولم يَبْدُ السرور على أحد، كما بدا على بابا روما: غريغوار الثالث عشر، الذي أمر بضرب أوسمة خاصة تخليداً لذكراها. وقد رسمت على هذه الأوسمة صورة البابا وبجانبه ملك يضرب بالسيف أعناق الخوارج، وبجانبهما هذه الكلمة (قتل الخوارج). كما أمر البابا أيضاً بإيقاد نيران الفرح، وبإطلاق المدافع، وبإقامة قداديس كثيرة، وبجعل الرسام يصور على جدران الفاتيكان مناظرها، ثم أرسل إلى ملك فرنسا سفيراً ليهنئه على عمله الرائع". ثم يضيف(لوبون): "وهذه الأنباء التاريخية تدلنا على نفسية المؤمنين (المتمذهبين) في كل دور".
هذا من جانب الكاثوليك ضد البروتستانت. أما من جانب البروتستانت، فيقول عنهم(لوبون): "إنهم لم يكونوا أقل من إخوانهم الأعداء، فكانوا يعتدون على الكنائس الكاثوليكية، ويتطاولون على القبور والهياكل". كما "اضطهد البروتستانت الكاثوليك في جنوب فرنسا، لكي يتخلوا عن عقيدتهم، وكانوا يذبحونهم، وينهبون كنائسهم عندما يفشلون في ثنيهم عن عقيدتهم".
وبرغم سَنِّ ما يعرف ب(مرسوم نانت)، من قبل هنري الرابع،(1589 1610م)، وهو مرسوم كان ينظم العلاقة بين البروتستانت والكاثوليك، ويسمح للبروتستانت (الهيجونوت) بهامش من المساواة الاجتماعية والسياسية مع الأغلبية الكاثوليكية، وبنوع من حرية العبادة، إلا أن التسامح الذي ترتب عليه لم يدم طويلاً، لأن العقائد المتناقضة لا تظل، كما يقول لوبون، متقابلة من غير أن تتصادم، عندما تشعر إحداها بقدرتها على قهر الأخرى. ذلك أنه لما ضعف البروتستانت في أيام لويس الرابع عشر، عدلوا عن القيام بأي حركة عدائية، وأصبحوا من ثم في قبضة الكاثوليك الذين عاودوا الكرة عليهم، فأمعنوا في قتلهم وهدم كنائسهم، وذلك بعد أن ضغطوا على لويس الرابع عشر، فألغى المرسوم الذي كان ينظم العلاقة بين الطائفتين، والمعروف بمرسوم(نانت).
لماذا لم يستمر مرسوم نانت، وهو الذي خفف وطأة الصراع الكاثوليكي البروتستانتي؟
أظن أن لوبون مهد الطريق للجواب عن هذا السؤال عندما قال: "إن العقائد المتناقضة لا تظل متقابلة من غير أن تتصادم، عندما تشعر إحداها بقدرتها على قهر الأخرى". ذلك أن زعماء الكاثوليك، وخاصة زعيمهم القوي آنذاك (بوسويه)، ضغطوا، عندما أحسوا بقوتهم وبضعف البروتستانت، على لويس الرابع عشر حتى ألغى ذلك المرسوم.
في الجانب الإسلامي، نجد أن واقع الصراع بين السنة والشيعة يشهد لتلك الحقيقة التي ذكرها لوبون، وهي أن الصراع بين المذاهب من داخل الديانة، أشد وطأة من الصراع بين أتباع الديانات. فلقد كان الصراع بين أتباع المذهبين، على مر التاريخ الإسلامي وحتى اليوم، من المرارة والرعب، بحيث فاق أي صراع خاضه المسلمون، أو اضطروا إليه مع أهل الملل والنحل غير الإسلامية.
إن الصراعات المذهبية لن تنتهي، أو يخمد أوار نارها ما لم تُسلّط عليها أضواء النقد التاريخي والفلسفي، التي تعيد زرع نصوصها ومقولاتها العقدية في بيئتها الأولى، والتي تأبدت منها في(اللاوعي) الجمعي الإسلامي، حتى أصبحت عقيدة مقدسة لا تمس، وهي من القداسة أشد بعداً.
من أبرز ما سيكشف عنه النقد التاريخي لنصوص الطوائف العقدية المتنافسة، كالشيعة والسنة، أن للتنافس السياسي أثراً كبيراً في بداية تشكلها، ثم في انقلاب تنافسها السياسي إلى مقولات عقدية، يوالي عليها الأتباع ويعادون.
ولقد قلت في مناسبة سابقة: "إن مما ستكشفه أي قراءة تاريخية حقيقية للصراع السني/الشيعي، أن ذلك الصراع كان في البدء صراعاً سياسياً بين حزبين سياسيين، وأن أحد ذانك الحزبين، وهو الحزب الشيعي، عمد، بعد أن هُزِمَ سياسياً، إلى تغليف صراعه مع الحزب السني بغلاف عقدي سميك، فلم يكن أمام الحزب السني إلا أن يلجأ هو الآخر، وكردة فعل تحصينية، إلى تغليف علاقته مع الحزب الشيعي بغلاف عقدي أيضاً. كما ستكشف لنا أيضًا أننا اليوم ورثة صراع سياسي دنيوي، لا ناقة لنا فيه ولا جمل، لكنا أُلْهِمناه وعُرِّفناه ودُرِّسناه على أنه صراع عقدي، تفترق على ضوء معرفته والإيمان به سبل الهداية من سبل الغواية".
الجذر السياسي للصراع الشيعي/السني ليس بدعاً من الصراع المذهبي التاريخي، إذ جل، إن لم يكن كلّ الصراعات المذهبية في الأديان الأخرى، إذا تُؤُمِلتْ وجد أنها لم تكن إلا ظاهراً عقدياً لباطن سياسي بحت، وإن خفي ذلك على جماهير ذلك المذهب أو ذاك، وخاصة بعد أن بعدت الشقة التاريخية عن بداية ذلك الصراع.
هلموا أيها المسلمون إلى نقد تاريخي جاد لنصوص الصراع الشيعي السني إن كنتم ترومون حلاً جذرياً له. وليكن لكم في ما جرى في الغرب أسوة حسنة، فلقد سبقوكم في اتباع سواء السبيل، عندما قاموا بتسليط أضواء النقد الجاد على نصوص كل من الكاثوليك والبروتستانت، حتى أبانوا عن تاريخيتها واجتماعيتها، وأنها ليست إلا عملاً بشرياً تولى كبره فاعلون اجتماعيون، تحت ضغط سياق سياسي اجتماعي تنافسي لا يمت لسياقاتنا الحالية بصلة. والأهم من ذلك كله، أن بعدها عن الدين الحق بعد المشرقين!.

شارك برأيك

مرحبا بالاصدقاء الاعزاء
يسعدنى زيارتكم وارجو التواصل دائما
Hello dear "friends
I am glad your visit and I hope always to communicate

TvQuran
,