بقلم / د. سعد الدين إبراهيم
ربما سيتوقف المؤرخون والمحللون السياسيون طويلاً في المستقبل للإجابة على السؤال: لماذا استحى الحزب الوطني، واكتفى بستة وثمانين في المائة من مقاعد مجلس الشعب في الانتخابات الأخيرة (28/11، و5/12/2010).
فمن الواضح لكل المُراقبين المحليين والخارجيين، أن الحزب الوطني الحاكم ـ وهو الذي حدد الوقت لتلك الانتخابات، وهو الذي حدد مواعيدها، ونفّذها، وأعلن نتائجها، أنه كان يستطيع الحصول على مائة في المائة من المقاعد، وأن يفعل ذلك بنفس الطريقة التي أعطى لنفسه بها تلك النسبة (86%) ـ وهي "التزوير".
فالتزوير أصبح طريقة حياة للحزب الوطني.
فرغم رفض الحزب وحكومته لوجود مُراقبين دوليين، ثم تضييقه الخناق على المُراقبين المصريين من منظمات المجتمع المدني، ومنها أقدم هذه المُنظمات، وهي مركز ابن خلدون، فقد استطاع بعضهم أن يَنفذ إلى مراكز الاقتراع، وأن يُسجل بالكاميرات المُتناهية الصغر، التزوير الفاضح. وقد رأى الملايين على المواقع الإلكترونية سلوكيات التزوير هذه. وقد رأى كاتب هذا المقال أحد هذه الأشرطة حول التزوير في عدد من مراكز الاقتراع في بلبيس، بمحافظة الشرقية، وعدد من قرى مركز المنصورة، بمحافظة الدقهلية، ومحافظة بورسعيد والإسماعيلية.
طبعاً، حدث كل هذا التزوير، رغم أن نسبة المُشاركة في التصويت انخفضت إلى أدنى مُستوياتها، خلال الثمانين سنة الأخيرة ـ وتحديداً منذ انتخابات 1924، في ظل أفضل دساتير مصر على الإطلاق وهو دستور 1923.
إذ لم يُشارك في انتخابات 2010، إلا عشرة في المائة من إجمالي المواطنين المصريين المُسجلين في الجداول الانتخابية. وهذه النسبة (10%) أقل من نسبة المُشاركة في انتخابات 2005.
إن امتناع تسعين في المائة (90%) عن المُشاركة هذه المرة هو لسببين رئيسيين: أولهما، عدم ثقة الناس في أمانة أو جدوى الانتخابات في ظل النظام الحاكم حالياً. والسبب الثاني هو الخوف من العُنف الذي أصبح سمة لصيقة بإجراء الانتخابات في عهد الرئيس محمد حسني مُبارك.
إن مُقاطعة تسعين في المائة من أبناء مصر للانتخابات الأخيرة هي رسالة واضحة ومُدوية. فإذا كانت تلك هي الرد الشعبي الاحتجاجي على تزوير الحكومة لإرادته، فما هي الإجابة الموازية من قيادات المُعارضة وقوى المجتمع المدني على هذا الامتهان؟
تناقلت بعض وسائل الإعلام المستقلة أن هناك جهة للمُعارضة تكونت بالفعل، أو هي في طريقها إلى التكوين وأن هذه الجهة ستؤلف:
* أولاً، برلماناً شعبياً موازياً للبرلمان المُزوّر، يكون أعضائه من أولئك المُرشحون الذين حصلوا على أعلى الأصوات في دوائرهم، ولكن الحكومة حرّمتهم من حقهم المشروع الذي أعطاه المواطنون أصواتهم وثقتهم.
* ثانياً، تأليف حكومة ظل موازية، تطلب من موظفين الدولة والقطاع العام، الولاء لها وحدها، وتنفيذ تعليمات وزراء ومسئولي هذه الحكومة الموازية، دون غيرها.
* ثالثاً، تطلب الحكومة الموازية من المواطنين الالتزام بطاعة القوانين القائمة، إلى أن يقوم البرلمان الموازي بتغيير وتعديل ما يتطلبه الوضع الجديد من هذه القوانين.
* رابعاً، تعلن الحكومة الموازية، على لسان رئيسها، في البرلمان الموازي، أنها حكومة انتقالية، وأن أهم مهامها، هو إجراء انتخابات حُرة، نزيهة، وشفافة. وتحت إشراف دولي (الأمم المتحدة)، ويلتزم أمام البرلمان والشعب، والعالم، بأن يتم ذلك في غضون سنتين، على الأكثر.
فهل هذا حلم مُستحيل؟
أبادر بالإجابة، أنه ليس حلماً مُستحيلاً على الإطلاق. فقد نجحت امرأة، في بورما، وهي كي سان سوسيه، في إجبار نظام عسكري مُستبد على أن يذعن للإرادة الشعبية، ويُعلن عن انتخابات جديدة.
قد يقول بعض التابعين للأمور في بورما (مينامار) أن هذه السيدة التي حصلت على جائزة نوبل، قد صمدت رهن الاعتقال خمسة عشر عاماً، دون أن ينجح عسكر بورما في لي ذراعها النحيل. وأقول لهؤلاء المُتحفظين، أننا في مصر قد تحملنا جور وفساد هذا النظام ثلاثين عاماً، فهو بمثابة سجن كبير... بل إن ألافاً منا قد دخلوا سجونه ذات الجدران والقضبان.
كذلك بيننا من حصلوا على جوائز عالمية كُبرى، لإنجازاتهم في شتى الميادين ـ ومنهم أحمد زويل، ومجدي يعقوب، ومحمد البرادعي.
ولحسن الحظ، فإن أحدهم، وهو محمد البرادعي، قد رمى بثقله في ساحة الخدمة العامة. وبدلاً من أن يُخلد إلى الراحة بعد حياة حافلة بالمسئوليات الدولية، فقد اختار الرجل أن يعود إلى ساحة العمل الوطني في مصر، وكأنه على موعد مع القدر. فعامي 2010 و2011 هما لحظة فارقة في تاريخ مصر. وما يحدث في هذه اللحظة الفارقة سيُحدد مُستقبل مصر والوطن العربي والشرق الأوسط لرُبع قرن قادم على الأقل.
لذلك لا بد لكل الحريصين على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحاضر، وعلى بناء مُستقبل أفضل، أن يلتفوا حول محمد البرادعي، وأيمن نور، وحمدين صباحي، وأسامة الغزالي حرب، ومحمد غُنيم، وعبد المنعم أبو الفتوح، وعصام العريان، وجورج إسحق، وأمثالهم من الشخصيات الوطنية الشريفة، التي لم تلوثها السُلطة، ولم تُفسدها الثروة. فهؤلاء هم بالقطع سيكونون ضمن المؤيدين للبرلمان الموازي، ولحكومة الظل البديلة. وهما المؤسستان اللتان ستقودتا، المرحلة الانتقالية، وتعبران بنا إلى مُستقبل ديمقراطي أفضل.
ولنتذكر مرة أخرى الأبيات المأثورة للشاعر التونسي الشاب، أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة... فلا بد أن يستجيب القدر... ولا بد لليل أن ينجلي... ولا بد للفجر أن ينبلج.
فلرب ضارة نافعة. وربما يكون جشع النظام، وتزويره الفاضح للانتخابات، هي القشة التي قصمت ظهر البعير، ومؤذنة بنهايته، وتُلحقه اللعنات إلى يوم الدين.
وعلى الله قصد السبيل

