أقام النبي في مكة بعد فتحها ١٩ يوماً، وفي يوم السبت ٦ شوال من السنة الثامنة للهجرة خرج إلى حُنين ، وهو وادٍ قريب من الطائف.
كان سبب توجّهه إلى حُنين ما بلغه عن هوازن -أهل الطائف – أنهم يجمعون الجموع الكثيرة لقتاله وهو في مكة، فتوجه إليهم قبل أن يأتوها.
جمعت هوازن ٢٠ ألف مقاتل ، وخرجوا بنسائهم وأطفالهم وأموالهم من الإبل والغنم ، وكان قائدهم مالك بن عوف .
خرج النبي من مكة ومعه ١٢ ألف مقاتل ، ١٠ آلاف جاؤوا معه من المدينة لفتح مكة ، و ٢٠٠٠ من أهل مكة وهم الطُلقاء.
استعمل النبي على مكة بعد خروجه منها عَتَّاب بن أسيد رضي الله عنه ، وهو أول أمير على مكة في الإسلام .
في طريق النبي إلى حُنين مر على شجرة عظيمة يُقال لها ” ذات أنواط ” كان العرب يتمسحون بها ويتبركون بها ويعبدونها .
فقال الطُلقاء من أهل مكة – وكان في إسلامهم ضعف – : يارسول الله اجعل لنا ” ذات أنواط كما لهم ذات أنواط “.
فغضب رسول الله ، وقال : ” الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلٰهاً كما لهم آلهة “.
وصل النبي إلى وادي حُنين ، وفي السَحر عبَّأ رسول الله جيشه ، وعقد الألوية والرايات ، ورتب جنده في هيئة صفوف منتظمة.
استعمل النبي على الفُرسان خالد بن الوليد رضي الله عنه وبشَّر أصحابه بالفتح والنصر إن صبروا وثبتوا .
كان بعض المسلمين من الطُلقاء قد أُعجب بكثرتهم، وقالوا والله لا نُغلب اليوم من قِلة ، فكان اتكالهم على عددهم.
بدأ المسلمون بالنزول إلى وادي حنين – وكان مُنحدراً شديداً – وكانوا لا يدرون بوجود كَمين لهوازن في أسفل الوادي .
فلما نزلوا الوادي ، ما فاجأهم إلا كتائب هوازن قد شَدَّت عليهم شَدَّة رجل واحد ، وبدأ الضرب بخالد بن الوليد حتى سقط .
وانكشفت خيل بني سُليم مُولية ، وتبعهم أهل مكة – وهم الطُلقاء – وبدأ فِرار المسلمين من كل مكان .
قال البراء بن عازب : فلقوا – أي المسلمون – قوماً رُماة لا يَكاد يَسقط لهم سَهْم فرَشَقُوهم رشقاً ، ما يَكادون يُخطئونا.
انحاز النبي ذات اليمين ، وثبت معه نفرٌ قليل من المهاجرين والأنصار ، وأهل بيته ، فيهم أبو بكر ، وعُمر ، وعلي .
فأخذ رسول الله يُنادي الذين فرَّوا من المسلمين : ” إليَّ عِباد الله هَلُمُّوا إليَّ ، أنا رسول الله ، أنا محمد “.
ولم يلتفت منهم أحد إليه ثم أخذ رسول الله يركض ببغلته قِبَل المشركين ، ويقول :أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبدالمطلب.
وكان العباس آخذ بلِجَام بغلته ، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث آخذ بِرِكَابِها يَكُفَّانها عن الإسراع نحو العدو .
ثم نَزَل رسول الله عن بغلته ، فاستنصر ربه ودعاه قائلاً : ” اللهم نَزِّل نصرك ، اللهم إنْ تشأ لا تُعبد بعد اليوم “.
وأخذ رسول الله يُقاتل ، والصحابة الذين ثبتوا يُقاتلون معه ، ويَتَّقون به لشجاعته وعظيم ثباته في مثل هذه المواقف.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كُنَّا إذا احمر البأس ، ولقي القومُ القومَ ، اتَّقينا برسول الله .
ثم قال رسول الله لعمه العباس ، وكان رجلا صَيِّتا : ” ياعباس ناد أصحاب السَّمُرَة “.- وهي الشجرة -.
اقرأ أيضا :السيرة النبوية الشريفة : سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (الحلقة الرابعة والعشرون )
فنادى العباس الصحابة الذين بايعوا رسول الله بيعة الرضوان – تحت الشجرة – فلما سمع المسلمون صوته أقبلوا .
وهم يقولون : لبيك لبيك ، حتى إن الرجل ليُثني بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، ويقتَحِم بعيره ، ويُخلي سبيله ، ويَقصد العباس.
قال العباس رضي الله عنه : والله لكأنَّ عطفتهم حين سمعوا صوتي ، عَطْفة البقر على أولادها ، وفاء ببيعة الرضوان .
وتجالد الناس مُجالدة شديدة ، وأشرف النبي من بغلته ، ثم قال : ” الآن حَمي الوَطيس “.
ثم أخذ النبي حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ، وقال : ” شاهت الوجوه “ فلم يبق منهم أحد إلا وامتلأت عيناه وفمه بالتراب .
ثم قال رسول الله : ” انهزموا ورب الكعبة ، انهزموا ورب الكعبة “. ثم أيَّد الله رسوله والمؤمنين بنزول الملائكة .
قال الله تعالى : ” لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حُنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغن عنكم شيئا …”.
لم تُقاتل الملائكة في غزوة حُنين ، وإنما نزلت لتخويف الكفار ، وإلقاء الرُّعب في قلوبهم .
لم تُقاتل الملائكة في غزوة قط إلا في غزوة بدر الكُبرى ، وهذا من خصائصها ، كما ثبت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما .
لما نزلت الملائكة هرب الكفار من كل مكان، وسأل الرسول عن خالد بن الوليد، فوجده جريحا مستندا على راحلته لا يستطيع الحركة.
فأتاه النبي ، وأخذ يَنفث على جراحه ويَمسحها بيده الشريفة ، حتى شُفي خالد من جراحه ، فهذه من معجزاته .

