حديثنا اليوم عن زهرة جديدة من زهرات بيت النبوة ،حديثنا عمن كان زواجها بالرسول صلى الله عليه وسلم بأمر من الله من فوق سبع سموات ،عمن نزلت في يوم عرسها آية الحجاب ،عن أطول أمهات المؤمنين يدا ، وأسرعن لحوقا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، عن السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها
هي السيدة زينب بنت جحش بن رئاب وتكنى "بأم الحكم " ،وكانت تسمى برة فسماها الرسول صلى الله عليه وسلم زينب بعد زواجه منها ، فعن زينب بنت أم سلمة قالت :" كان اسمي برة فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ،ودخلت عليه زينب بنت جحش واسمها برة فسماها زينب بعد زواجه منها" مسلم
وهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمها هي أميمة بنت عبد المطلب ،وأخوالها حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه الملقب بأسد الله وسيد الشهداء في غزوة أحد ، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وخالتها صفية بنت عبد المطلب الهاشمية ، أم حواري النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام رضي الله عنه
ولها إخوان هما عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه صاحب أول راية عقدت في الإسلام وأحد الشهداء ، والآخر أبو أحمد واسمه عبد بن جحش الأعمى ، وهو أحد السابقين الأولين ومن المهاجرين إلى المدينة ، و أختها حمنة بنت جحش رضي الله عنها من السابقات إلى الإسلام
ولدت السيدة زينب رضي الله عنها في مكة المكرمة في السنة الثالثة والثلاثين قبل الهجرة ،وقد نشأت في بيت شرف ونسب وحسب ، وأنعم الله عليها بالجمال والحسب الرفيع فكانت من علية نساء قريش ، وهي متمسكة بنسبها ، ومعتزة بشرف أسرتها ، وكثيرا ما كانت تفتخر بأصلها ، وقد قالت مرة :"أنا سيدة أبناء عبد شمس".
وما أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسلم أخوها عبد الله رضي الله عنه ودعاها وإخوتها للإسلام فأسلموا ودخلوا جميعا في دين الله ،و تحملوا الأذى في سبيل الله حتى أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم بالهجرة فهاجروا إلى المدينة و تركوا بيتهم في مكة خاليا فأخذه أبو سفيان فذكر عبد الله بن جحش رضي الله عنه ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : "الا ترضى يا عبد الله ان يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها"
وحتى هذا الوقت كان التبني لايزال مشروعا في الإسلام ،وقد تبني النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وسماه زيد بن محمد وهذا كله قبل إبطال التبني ،وكان زيد من أعظم وأحب الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حبه، وقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه من زينب رضي الله عنها
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على زينب رضي الله عنها ليخطبها لزيد رضي الله عنه فقالت: لستُ بناكحته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بَلْ فَانْكِحِيهِ".
قالت: يا رسول الله، أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحدَّثان، أنزل الله تعالى قوله على رسوله : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36]
فقالت رضي الله عنها: رضيتَه لي يا رسول الله منكحًا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم"
قالت: إذن لا أعصي رسول الله ، قد أنكحته نفسي.
وبهذه الواقعة أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحطِّم الفوارق الطبقيَّة الموروثة في الجماعة المسلمة، فيردَّ الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلاَّ بالتقوى، وكان الموالي (وهم الرقيق المحرَّر) طبقة أدنى من طبقة السادة، ومن هؤلاء زيد بن حارثة رضي الله عنه ،فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحقِّق المساواة الكاملة بتزويجه من شريفة من بني هاشم، قريبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها ؛ ليُسقط تلك الفوارق الطبقيَّة بنفسه في أسرته، وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطِّمها إلاَّ فعل واقعيّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم تتَّخذ منه الجماعة المسلمة أسوةً، وتسير البشريَّة كلها على هداه في هذا الطريق
اقرأ أيضا :السيرة النبوية الشريفة : سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (الحلقة الثانية والعشرون )
وقبلت السيدة زينب رضى الله عنها الزواج من زيد رضي الله عنه على مضض لانها كانت تراه دونها في الشرف والنسب فهو مولى وهي شريفة من شريفات بني هاشم ، وكانت الحياة بينهما غير مستقرة تخلو من المحبة والصفاء ،وكان زيد رضي الله عنه يشكوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويشتكي له من عدم استطاعته البقاء معها
وجاء زيد رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يأذن له في طلاِّق زينب رضي الله عنها ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّه، وقال له: "اتَّقِ اللهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ". فأنزل الله تعالى قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاس وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]
فالله تعالى قد أخبر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن زينب رضي الله عنها ستكون زوجةً من زوجاته، وأنه لابد لزيد رضي الله من مفارقتها وأن الله تعالى سيزوجه اياها ليبطل عادة التبني ،وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستحى من أن يقال عليه صلى الله عليه وسلم تزوج زوجة ابنه وخاف المنافقين وأقوالهم؛ فعاتبه الله تعالى على خشيته من الناس في شئ قد أباحه الله له ؛ ليكون لزواجه من السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها حكمة تشريعية عظيمة، وهي إسقاط التبني، هذه العادة الجاهلية المستحكمة في نفوس الناس والتي تؤدي إلى اختلاط الأنساب وضياع الحقوق.
وأول من يُطبِّق هذه الحكمة هو النبي صلى الله عليه وسلم على مَنْ تبنَّاه؛ إذ كان زيد رضي الله عنه منسوبًا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فكان يُقال له: زيد بن محمد. ثم أُسقط التبني فنُسب لاسمه الحقيقي زيد بن حارثة رضي الله عنه
ولقد كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها إحدى دلائل نبوته ، وذلك لما تضمنه هذا الزواج من معاتبة الله له صلى الله عليه وسلم ، وهي معاني لو لم يكن عليه الصلاة والسلام نبياً لأخفاها عن الناس ، حفظا لسمعته وصونا لهيبته ، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكتمها ، بل بلغها ، وبلاغه لها صلى الله عليه وسلم دليل صريح على أنه رسول الله حقاً، والمبلغ عن الله صدقاً .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ( لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئا مما أُنزل عليه ، لكتم هذه الآية : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } ) ( مسلم )
نزل أمر الله بزواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها لتصحيح المفاهيم الخاطئة وهدم العادات الجاهلية ، وقد ظهر في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين زينب رضي الله عنها ، فضل كلا من زيد والسيدة زينب رضي الله عنهما
ففي قول الله تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا } منقبة عظيمة لزيد رضي الله عنه ،فقد انفرد رضي الله عنه وحده دون الصحابة بذكر اسمه في القرآن الكريم، إذ لم يذكر اسم أحد في القرآن الكريم، إلا لنبي من الأنبياء ولزيد بن حارثة رضي الله عنه
فلما حرم زيد رضي الله عنه من أن يقول : أنا زيد بن محمد، لما نُزِع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، أكرمه الله وشرفه بخصوصية لم يخص بها أحدا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهي أنه ذكره باسمه في القرآن الكريم، وفي ذلك تأنيس له ، وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم له .
أما السيدة زينب رضي الله عنها فكان زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، وهو الذي زوَّجه إياها، قال تعالى: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } (الأحزاب: من الآية37)، وفي هذا شرف عظيم ومنقبة جليلة للسيدة زينب رضي الله عنها ، ومن ثم كانت تفاخر بذلك ..
فعن أنس رضي الله عنه قال: ( كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : زوَّجكن أهاليكن، وزوَّجني الله من فوق سبع سماوات ) البخاري

